المقالات والتقارير

مراجعة نقدية لكتاب "فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية"
د. محمد خليل الموسى

أستاذ القانون الدولي


kefmoh@hotmail.com

يعدّ كتاب "فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية" من تأليف سائدة حسين آدم (Saeda Hussein Adem) مرجعاً مهماً في مجال القانون الدولي والقانون الجنائي الدولي، حيث يتناول الكتاب بشكل رئيسي دور المحكمة الجنائية الدولية في محاكمة الجرائم المرتك بة ضد الشعب الفلسطيني من قبل الكيان الصهيوني. نُشر الكتاب من قبل دار النشر ((Springerفي عام 2019 باللغة الإنجليزية، ويهدف إلى تقديم رؤية قانونية ونقدية للكيفية التي تتعامل بها المحكمة مع القضايا الفلسطينية ضمن الأطر القانونية المعترف بها دوليًا. الكتاب يُعتبر إضافة مهمة للأدبيات القانونية حول العدالة الدولية والحقوق الفلسطينية، ويُسلط الضوء على العديد من القضايا القانونية المعقدة التي تحيط بمحاكمة الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني.
تعتمد هذه المراجعة النقدية منهجًا مركبًا يجمع بين التحليل القانوني، والنقد الفلسفي، والنظر إلى البنية الكولونيالية للقانون الدولي، مع الانفتاح على الأدبيات النقدية المعاصرة كمدرسة TWAIL (مقاربات الجنوب العالمي للقانون الدولي). وتسعى المراجعة إلى تقييم مساهمة الكاتبة في النقاش، وتسليط الضوء على نقاط القوة والضعف، مع تقديم توصيات للتطوير المستقبلي.

المحتوى
1-الجزء الأول: السياق القانوني
يبدأ الكتاب بتقديم خلفية تاريخية للقضية الفلسطينية وكيفية تطورها في إطار القانون الدولي. يتناول الكتاب انضمام فلسطين إلى محكمة الجنائية في عام 2015، ويستعرض المسار القانوني الذي سلكته فلسطين في الطلب من المحكمة التحقيق في الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني. يتناول الكتاب كذلك نظام روما الأساسي وتفسيراته المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني في سياق المحاكمة.
2-الجزء الثاني: الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين
يخصص الكتاب فصلاً كاملاً لدراسة الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، سواء كانت جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ينظر الكتاب في القضايا المتعلقة بالهجمات العسكرية الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، مثل العدوان الإسرائيلي في2014 (عملية الجرف الصامد) ويقدم تحليلاً قانونيًا مفصلاً حول كيفية تصنيف هذه الأفعال كجرائم دولية.
3-الجزء الثالث: المحكمة الجنائية الدولية والقضية الفلسطينية
في هذا الجزء، يركز الكتاب على تحديات محكمة الجنايات الدولية في التعامل مع القضايا الفلسطينية، بما في ذلك العراقيل السياسية التي تفرضها الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، وكيف تؤثر هذه العوامل على سير التحقيقات. كما يناقش الكتاب كيف أن القوى السياسية الدولية قد تتدخل أحيانًا لمنع تحقيق العدالة في القضايا المتعلقة بفلسطين.
4-الجزء الرابع: التحديات المستقبلية وآفاق العدالة
يستعرض الكتاب التحديات المستقبلية التي قد تواجه محكمة الجنايات الدولية في القضية الفلسطينية، مع التركيز على الدور الذي يمكن أن تلعبه المجتمع الدولي في تعزيز العدالة الفلسطينية. يتساءل الكتاب حول دور المحكمة في تقديم المسؤولين الإسرائيليين إلى العدالة وكيفية تحسين آليات المحاكمة في المستقبل.
إسهامات الكتاب ونقاط قوته
1-التحليل العميق للقانون الجنائي الدولي: يقدم الكتاب تحليلاً شاملاً للمسائل القانونية المتعلقة بالقضية الفلسطينية في سياق المحكمة الجنائية الدولية. يعتمد الكتاب على مصادر قانونية رصينة ويتناول المفاهيم القانونية المعقدة مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية بطريقة مبسطة ومفهومة.
2-نقض الحجج القانونية للكيان الصهيوني: تضمن الكتاب مناقشة تفنيدية للدفوع القانونية التي تستخدمها إسرائيل وحلفاؤها، خاصة تلك المتعلقة بعدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أو نفي الولاية القضائية لمحكمة لم تصادق إسرائيل على نظامها الأساسي.
3-النقد السياسي الواعي: لا يقتصر الكتاب على الجانب القانوني فقط، بل يتناول بعمق أيضًا الأبعاد السياسية التي تؤثر في سير العدالة. ينتقد الكتاب الضغوط السياسية التي تؤثر على المحكمة ويشيد بالدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع الدولي في الدفع نحو محاكمة عادلة.
4-الدقة في توثيق الجرائم وإبراز أهميته: يبرز الكتاب من خلال تحليله تفاصيل دقيقة حول الجرائم الإسرائيلية المرتكبة ضد الفلسطينيين، ويقدم أمثلة حية من التقارير الدولية والتحقيقات التي تدعم الفرضية القانونية بأن هذه الأفعال يمكن تصنيفها كجرائم دولية. وقد فّرت الكاتبة أرشيفًا مرجعيًا وتحليليًا مهمًا يساهم في بناء ملف قانوني متماسك حول جرائم الاحتلال، وهو ما يعد ذا قيمة كبيرة للباحثين، والمنظمات الحقوقية، ومحامي الادعاء في المحافل الدولية.
أوجه الضعف في الكتاب
1-التركيز على الجانب القانوني: رغم أن الكتاب يقدم تحليلاً قانونيًا ممتازًا، إلا أن بعض القراء قد يجدون أنه يفتقر إلى تعمق أكبر في الجانب الإنساني، على الرغم من أن الكتاب يناقش الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، إلا أن التركيز الأكبر كان على المسائل القانونية والسياسية، مع إغفال جوانب إنسانية مهمة قد تؤثر في القارئ العادي.
2-إغفال الحلول العملية: على الرغم من النقد السياسي العميق الذي يقدمه الكتاب، فإنه لا يقدم حلولاً عملية لمواجهة التحديات التي تواجه المحكمة الجنائية الدولية في قضية فلسطين. وكان من الممكن أن يتناول الكتاب إجراءات قانونية عملية أو مقترحات لتحسين فعالية المحكمة في التحقيقات والملاحقات القضائية.
3-التأثير السياسي على العدالة: بينما يناقش الكتاب الضغط السياسي الذي تتعرض له المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه لا يقدم رؤى حول كيفية التغلب على هذه الضغوط بشكل عملي، مما قد يشعر القارئ بأن الكتاب يقتصر على توثيق الإشكاليات أكثر من طرح حلول واقعية لها.
4-غياب التحليل الفلسفي للقانون والعدالة: على الرغم من ثراء الكتاب من الناحية القانونية والتحليلية، إلا أنه يكاد يخلو من أي تأمل فلسفي في مفهوم العدالة الدولية أو الأسس الأخلاقية للقانون الجنائي الدولي، خصوصًا في سياق الاستعمار الاستيطاني والهيمنة الغربية على بنية النظام القانوني الدولي. لم يُعالج الكتاب، على سبيل المثال، التساؤلات الجوهرية حول من يملك سلطة تعريف الجريمة و"من يُحاكم من؟"، وهي أسئلة تطرحها المدارس النقدية وما بعد الكولونيالية في القانون الدولي وفلاسفة القانون أمثال Martti Koskenniemi وDavid Kennedy ضمن تقاطعات القانون والسياسة.
هذا الغياب يُضعف من العمق النقدي للكتاب ويحد من قدرته على تقديم قراءة شاملة تربط بين البنية القانونية والمؤسساتية وبين الإرث الاستعماري الذي ما يزال يحكم كثيرًا من آليات العدالة الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية.
5 - عدم تناول آليات التنفيذ: يعاني الكتاب من نقص واضح في معالجة آليات تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية، وهو جانب بالغ الأهمية في تقييم فعالية المحكمة. فبينما يناقش الكتاب بإسهاب الإطار القانوني والاتهامات الممكن توجيهها لإسرائيل، إلا أنه لا يتناول بالقدر الكافي كيفية تنفيذ مذكرات التوقيف أو إنفاذ الأحكام الصادرة، خصوصًا في ظل غياب الإرادة السياسية للدول المؤثرة، وتفشي الانتقائية في تطبيق العدالة. كما لم يتطرق الكتاب إلى دور مجلس الأمن أو التعاون القضائي الدولي باعتبارهما شرطين حاسمين لتفعيل ولايات المحكمة، مما يترك القارئ أمام عرض قانوني نظري لا يكتمل بدون التفكير في سبل التطبيق الفعلي على أرض الواقع.
الكتاب في سياق القانون الدولي المعاصر
تُعد مساهمة Saeda Hussein Adem خطوة مهمة نحو مأسسة العدالة لفلسطين، لكن يمكن تعزيزها من خلال الانفتاح على تيار TWAIL الذي ينظر إلى القانون الدولي كأداة مزدوجة: إمّا للتحرر أو للتبعية. يُظهر هذا التيار أن المحكمة الجنائية الدولية لم تُنشأ خارج سياق الهيمنة، بل قد تكون امتدادًا لنمط من العدالة الانتقائية التي تتجنب محاسبة الفاعلين الأقوياء.
كما أن تطورات الوضع في غزة منذ أكتوبر 2023 تفرض إعادة النظر في المعايير التقليدية لتوصيف الإبادة الجماعية، إذ إن التواطؤ الدولي والتقاعس عن التدخل يطرح تساؤلات قانونية وأخلاقية حول مسؤولية المنظومة الدولية بأسرها، وليس فقط الجناة المباشرين. لذلك ينبغي علينا ربط الإبادة الجماعية في غزة بتحولات في الفقه القانوني الجنائي الدولي، وهو ما تبلور بوضوح في مرافعات جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والتي أعادت تعريف الإبادة الجماعية كفعل منهجي طويل الأمد، لا مجرد مذبحة سريعة.
الخلاصة
"فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية" يعرض إشكالية العدالة الدولية في سياق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي ارتكبت في الأراضي الفلسطينية وغزة، مثل القتل الجماعي والتهجير القسري، ويربطها بالقانون الدولي ومفهوم الإبادة الجماعية. يقدم الكتاب إطارًا قانونيًا يمكن أن يُستخدم لمحاكمة القادة الإسرائيليين المسؤولين عن هذه الجرائم، لكن في ذات الوقت يعرض التحديات السياسية التي تمنع تحقيق العدالة بشكل كامل، ويُظهر كيف أن السياسات الدولية تقف حاجزًا أمام العدالة للفلسطينيين.
رغم ما يطرحه الكتاب من إسهام مهم في النقاش القانوني حول فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية، فإن هناك مساحة واسعة للتوسع المستقبلي في طبعات قادمة أو أعمال متممة. يمكن للكاتبة أن تطوّر عملها ليشمل تحليلًا فلسفيًا أعمق لمفهوم العدالة في ظل اختلال موازين القوة الدولية، وكذلك تناول الآليات التنفيذية والواقعية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية. كما يمكن تعزيز البعد المقارن من خلال دراسة قضايا مشابهة، مثل محاكمات رواندا أو يوغوسلافيا السابقة، لتسليط الضوء على التمييز في تطبيق العدالة الدولية. بهذا الشكل، قد يتحول الكتاب إلى عمل مرجعي أكثر شمولًا يُجسّر الهوة بين التنظير القانوني وتحديات الواقع السياسي والجنائي، ويُسهم في بلورة رؤى نقدية أكثر جرأة حول مستقبل المحكمة الجنائية الدولية وعلاقتها بالقضية الفلسطينية.
بشكل عام، يعد "فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية" كتاباً مهماً يستحق القراءة لكل من يهتم بالقضية الفلسطينية والقانون الجنائي الدولي. الكتاب يقدم تحليلًا قانونيًا وسياسيًا معمقًا للقضية الفلسطينية في إطار المحكمة الجنائية الدولية. ورغم بعض النقاط التي يمكن تحسينها في الكتاب، مثل إغفال الحلول العملية، إلا أنه يعد مرجعًا غنيًا في موضوع حساس ومعقد ويمنح القارئ فهماً عميقًا حول التحديات التي تواجه العدالة الدولية في القضية الفلسطينية.

الكلمات المفتاحية: --

قم بالاشتراك الآن في
مجلة دراسات شرق أوسطية
Logo
Mastercard Logo Visa Logo