تشكّل الأزمة
السورية منذ عام 2011 إحدى أبرز الأزمات العربية وأخطرها، وقد تطورت إلى حدّ الحرب
الأهلية التي تدخّلت فيها أطراف دولية وإقليمية عديدة، ونظرًا لتداعياتها على
سورية وعلى مجمل المنطقة العربية، فقد رأى فريق الأزمات العربي- ACT أن يُخصّص هذا العدد من
تقاريره لبحثها؛ حيث يتناول خلفيات الأزمة وأبعادها، وتداعياتها السياسية والأمنية
والاقتصادية والاجتماعية، ومواقف الأطراف ومصالحها وأهدافها، وسيناريوهات مستقبل
الأزمة واستراتيجية الخروج.
ويركّز
التقرير على مواقف الأطراف ومصالحها، ويكشف عن التوافقات والتعارضات بين هذه
المواقف، ويُقدّم خطوطًا عامة لاستراتيجية الخروج من الأزمة بما يحقّق معظم مصالح
الأطراف المؤثّرة فيها، والتي يشكّل توافقها الخطوة الأولى باتجاه حلّ الأزمة.
بدأت
الأزمة السورية على صورة احتجاجات سلمية في آذار/ مارس 2011 مطالبة بإصلاح البنية
السياسية والأمنية والاقتصادية للنظام، غير أنّ العنف الذي قُوبلت به هذه
الاحتجاجات فتح المجال أمام انشقاق أعداد من الجيش النظامي، وتشكيل مجموعات مسلّحة
كان أكبرها الجيش الحرّ، وفتح الباب أمام تدخلات خارجية على المستوى الإقليمي
والدولي، كما ظهرت تنظيمات مسلحة إرهابية تصدّرت المشهد في وقت قياسي، كان أولها
جبهة النصرة التي تشكلت في كانون الثاني/ يناير 2012، ثم تنظيم الدولة الإسلامية
في العراق والشام "داعش" الذي أُعلن في سورية في نيسان/ أبريل 2013،
الذي وسّع من نطاق سيطرته في البلاد على حساب جبهة النصرة وفصائل الجيش الحرّ
المعارض، حتى أصبح في نهاية عام 2013 مسيطرًا على نسبة معتبرة من الأراضي الخارجة
عن سيطرة النظام السوري. وتسبّب ذلك بخلط المشهد السوري بين معارضة سياسية تطالب بإصلاحات سياسية
وأمنية واقتصادية، وأخرى مسلحة تطالب برحيل النظام، وبين ثالثة هي مجموعات متطرفة
إرهابية. وقد ساعد ذلك الأطراف القريبة من النظام والولايات المتحدة الأمريكية على
استخدام هذه الجماعات الإرهابية لوصف ما يجري في سورية بالإرهاب، وذلك على حساب
المشهد السوري للإصلاح أو التغيير السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد. وقد تدخلت روسيا
عسكريًا في أيلول/ سبتمبر 2015، بدعوة رسمية من النظام السوري وصمت الولايات
المتحدة وإسرائيل، وبذلك تغيّر المشهد الميداني بشكل واضح، حيث تمكّن النظام من
استرجاع المناطق الحيوية في قلب دمشق وفي شمال البلاد وجنوبها، وانحسر وجود المعارضة
المسلحة والجماعات الإرهابية في الشمال الغربي من محافظات إدلب وحلب وحماة.
وعلى
الصعيد السياسي، ومنذ بداية الأزمة، تحرّكت أطراف عربية ودولية لإيجاد حلول سياسية،
إلا أن الجهود العربية لم تنجح، كما فشلت الأمم المتحدة بالخروج بمشروع حلٍّ مناسب
للأزمة تقبله مختلف الأطراف، ولم تصل جهود مبعوثيها إلى نتائج ملموسة سوى ما سمّي
بإعلان جنيف (1). وفي أعقاب التدخل الروسي العسكري، طوّرت روسيا آلية
"أستانا" للمسار السياسي وعَقَدت لقاءات "سوشي" لدعم هذا المسار،
ونجحت في عَقد لقاءات ضمّت الأطراف المعنية، إلى جانب كلّ من الأتراك والإيرانيين،
وقد نتج عن ذلك ما عُرف باتفاقات "خفض التصعيد" في عدد من المناطق
السورية.
حصدت
الحرب في سورية أكثر من نصف مليون قتيل من جميع الأطراف، وأضعاف هذا العدد من
الجرحى والمفقودين، فضلًا عن حوالي 11,5 مليون لاجىء ونازح، وتدمير البنية التحتية
والحضارية للبلاد، وهو ما ترك تداعيات سياسية وأمنية واقتصادية على كلٍّ من سورية
والدول العربية ودول الإقليم بشكل أساسي، وتعدّتها إلى دول العالم من خلال موجة
اللجوء السوري، خصوصًا إلى دول أوروبا.
وكان
من أبرز تداعيات الأزمة السياسية والأمنية فقدان النظام السوري
السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد لصالح مجموعات مسلحة، وتنامي الجماعات
الإرهابية والمتطرفة في سورية، وتغييب الدور العربي والإقليمي لسورية في المنطقة،
وخصوصًا في الملفات الخاصة بالصراع العربي- الإسرائيلي، وزيادة الانقسامات العربية
على المستويين الرسمي والشعبي بين من يؤيد النظام السوري ومن يؤيد المعارضة. أمّا
التداعيات الاقتصادية للأزمة فتمثلت في نزيف الموارد الاقتصادية في سورية، وهو ما
رافقه تباطؤ النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط عمومًا.
وبخصوص
مواقف الأطراف، فقد حظيت الأزمة السورية منذ نشأتها بالاهتمام من قِبل الدول
العربية ومعظم أطراف المجتمع الإقليمي والدولي، وشهدت الأزمة تدخلات خارجية على
كافّة المستويات، وبدوافع مختلفة لكلّ طرف خشية من التداعيات المستقبلية على أمنه
ومصالحه السياسية والاقتصادية، أو رغبة في الحصول على مكاسب وامتيازات جديدة نتيجة
تدخله في هذه الأزمة، وقد تباينت مستويات تدخلات هذه الأطراف في مراحل الأزمة
المختلفة؛ حيث تدخلت كلٌّ من إيران وروسيا وحزب الله وميليشيات موالية لإيران
لصالح النظام، بينما تدخلت كلٌّ من تركيا والولايات المتحدة وقطر والسعودية لدعم
أطراف مختلفة في المعارضة.
وفي
ضوء تحليل مفصّل لمختلف مواقف الأطراف من الأزمة السورية ظهر أنّه لم يعد لأطراف
الأزمة السوريين من النظام والمعارضة الدور الرئيسي في حلّها، وذلك لعدم قدرة النظام
على بسط السيطرة والنفوذ الدائم في المناطق التي خرجت منها المعارضة من جهة، وتشتّت
المعارضة وتخلّي معظم الداعمين عنها من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يُبقي العامل
الدولي ومنطق توازن القوى وتقاسم النفوذ والمصالح بين الدول العظمى، وخصوصًا روسيا
والولايات المتحدة، والعامل الإقليمي بدرجة ثانية المتمثّل في كلّ من تركيا وإيران
ومصالحهما، يبقيهما المحدّدين الأبرزَين في الوصول إلى تسوية للأزمة السورية.
ويعرض
هذا التقرير لأربعة سيناريوهات رئيسية تحكم مستقبل الأزمة في سورية، تراوح بين
الحسم العسكري، والحل السياسي الشامل أو الجزئي، واستمرار حالة المواجهة
والاستنزاف القائمة، أو تحوّل الوضع الميداني المؤقت القائم ضمن موازين القوى
الحالية إلى وضع دائم عبر سيناريو التقسيم فيدراليًا أو عبر كيانات الحكم الذاتي
وصولًا إلى الفيدرالية. كما يضع التقرير عددًا من المحددات التي يمكن من خلالها
ترجيح أحد هذه السيناريوهات، ومن أبرزها مصالح وأولويات الأطراف الإقليمية
والدولية المنخرطة في الصراع (روسيا، والولايات المتحدة، وإيران، وتركيا) وتوجهات
الأطراف المحلية في الصراع (النظام والمعارضة) ومصالحها ومدى تأثيرها في مساره، ومستوى
استنزاف القوى المحلية والإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع، والوضع الميداني
على الأرض وميزان القوى العسكري، وطبيعة القضايا الخلافية العالقة، ومدى قدرة
الأطراف المتصارعة على التوصل إلى تفاهمات بخصوصها، إضافة إلى العامل الإنساني
ومستوى حضوره والاهتمام به من قبل المجتمع الدولي ومن قبل أطراف الصراع المباشرة
وغير المباشرة.
وفي
ضوء هذه المحددات يتضح التباين الكبير في مواقف الأطراف المؤثرة إزاء مستقبل
الأزمة السورية نتيجة تعارض مصالحها وأولوياتها، ولا تبدو احتمالات إنجاز حلّ
سياسي شامل أو تقسيم البلاد أو الحسم العسكري راجحة في عام 2019، ولذا، يُرجّح
استمرار المسار السياسي الحالي القائم على إنجاز الحلّ بصورة جزئية تدريجية بطيئة،
وفق اتفاقات منفصلة لكلّ منطقة على حِدَة، وربما يدعمه تطور التفاهم على الدستور
الجديد ونظام الحكم والانتخابات لاحقًا، وهو الأمر الذي قد يستغرق وقتًا أطول، وبذلك
رغم أنه لا يغني عن الحلّ السياسي الشامل بما فيه إعادة بناء النظام السياسي
والأمني والاقتصادي للبلاد بمشاركة كلّ السوريين.
وفي
ضوء تعقيد الأزمة السورية وتدويلها يُظهِر التقرير أنّ المدخل لحلّها واستراتيجية
الخروج منها يكمُن في توافق الفاعلين الدوليين والإقليميين المنخرطين في الأزمة على
فرض وقف إطلاق نار شامل، والدفع بالخيار السياسي تمهيدًا للمصالحة الوطنية في
سورية ولإعادة بناء النظام السياسي من قبل السوريين وبدعم المجتمع الدولي
والإقليمي، ولخلق ديناميكية داخلية تحافظ على أيّ اتفاق يتمّ التوصل إليه بين
هؤلاء الفاعلين بما يراعي المصلحة السورية وأغلب مصالحهم على نحو أو آخر.
ويُقدّم فريق الأزمات العربي- ACT في هذا التقرير عدّة اقتراحات في
إطار استراتيجية الخروج من الأزمة، أبرزها: 1) إعلان وقف إطلاق النار الشامل بين
أطراف الصراع، بتوافقات إقليمية ودولية، يشمل كل سورية بلا استثناء، وتجنّب تدهور
الأوضاع مجددًا أو اندلاع المواجهات في البلاد، وبدء المصالحة الوطنية والمصالحة المجتمعية
الدينية والإثنية والعائلية، مع الحذر من الركون للاتفاقات والتفاهمات المناطقية
المؤقتة الحالية، ومن التعامل معها كصيغ نهائية للوضع في سورية. 2) إعادة بناء
النظام السياسي، بشكل يضمن تحقق إصلاح سياسي وأمني واقتصادي حقيقي، ويوفر الفرصة
لبناء نظام سياسي ديمقراطي تعدّدي يرسّخ مفاهيم حرية العمل الحزبي، وتداول السلطة،
ودولة المواطنة دون تمييز على أساس الانتماءات والهويات الفرعية، مع المحافظة على
الخصوصية العربية والإسلامية الجامعة للشعب السوري كجزء من الأمة العربية
والإسلامية. 3) الحفاظ على وحدة الأرض السورية في أيّ اتفاق سياسي قادم، وانسحاب
كافة القوات الأجنبية من البلاد. 4) توفير ضمانات كافية، برعاية إقليمية ودولية،
لطمأنة اللاجئين بالعودة إلى مناطقهم، ومن ضمنها نشر قوّات شرطة عربية/ دولية
لفترة محددة في كافّة أرجاء البلاد، بما يضمن توفير الأمن للاجئين من جهة،
وللشركات العاملة في الإعمار من جهة أخرى، من أيّ اعتداءات سواءً من طرف النظام أو
أي فصيل مسلح معارض، أو الجماعات الإرهابية. وفي مشاورات أجراها الفريق مع أطراف
قريبة من النظام والمعارضة فإن انعدام الثقة بين الطرفين ما يزال ماثلًا، حيث يرفض
النظام أيّ وجود لقوات عربية/ دولية على الأراضي السورية، وترفض المعارضة هذا
الاقتراح من باب عدم الثقة بقدرة هذه الأطراف على توفير الحماية للاجئين، ومع ذلك
فإن أيًّا من الطرفين لم يقدّم اقتراحًا بديلًا لضمان عودة واستقرار آمن للاجئين
إلى حين التوصل إلى الاتفاق السياسي الشامل. 5) تحقيق العدالة الانتقالية بمفهومها
الشامل، وخصوصًا ما يتعلق بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات وبالمصالحات
المُجتمعية والتعويضات للضحايا ورعاية المتضررين وغيرها. 6) الشروع بإعادة الإعمار
في المناطق التى تتوقّف فيها الأعمال القتالية، نظرًا لما يحمله ذلك من تأثيرات
نفسية إيجابية لدى المواطنين السوريين داخل سورية وفي مناطق اللجوء خارجها. ودعوة
الأطراف غير المنخرطة في الصراع في سورية إلى المبادرة بمشاريع لإعادة إعمار
البلاد وتوفير البنى التحتية (الصحة والتعليم والنقل) على نحو عاجل من خلال آليات
دولية تتضمن شقّي المساعدات الإنسانية والاقتصادية، كما تتضمن جذب الاستثمارات
السورية والعربية والأجنبية، وبما يُحقق أمنًا اقتصاديًا واجتماعيًا للشعب السوري،
وخصوصًا في مناطق عودة اللاجئين أو النازحين.