تُشكّل تحوّلات السياسيات الدولية في الشرق الأوسط عاملًا
مهمًّا وفاعلًا في التحوّلات السياسية داخل المنطقة وفي العلاقات والصراعات
والتحالفات التي تتشكل فيها. وفي هذا
السياق شكّلت سياسات الولايات المتحدة في التعامل مع "تنظيم الدولة" في
العراق وسوريا، أساسًا مهمًا في التحولات العسكرية والسياسية في الأداء الأمريكي
في المنطقة منذ عام 2014، وفي التعامل مع الملف النووي الإيراني منذ عام 2015،
فضلًا عن تراجع إدارة الرئيس أوباما عن برامج الإصلاح الديمقراطي في المنطقة. لكنّ
التحوّلات الأكبر كانت في عهد الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة ترامب منذ مطلع
عام 2017، حيث تصدّر ملف مكافحة الإرهاب كلّ الملفات الأخرى في المنطقة من منظور
هذه الإدارة، كما شهدت السياسات الأمريكية تحوّلًا في التعامل مع إيران وملفّها
النووي، ومع دول الخليج العربية ودورها في تحمّل تبعات السياسة الأمريكية الحمائية
ضدّ إيران.
وشكّل تحوّل سياسات الإدارة
الأمريكية في التعامل مع القضية الفلسطينية منعطفًا مهمًّا في تعاملها مع المنطقة،
وذلك من خلال ثلاثة مستويات، أولها: حشد دول الخليج وراء الرؤى الأمريكية، بأن
التهديد الأساسي لها يتمثّل في إيران وليس إسرائيل؛ وثانيها: الضغط المباشر على
الفلسطينيين والأردنيين للقبول بما يطلق عليه "صفقة القرن"؛ والثالث:
التناسق مع توجهات اليمين الإسرائيلي المتطرّف في اعتبار كلٍّ من القدس والجولان
أراضٍ إسرائيلية.
وعلى صعيد روسيا الاتحادية فقد
تنامى دورها في المنطقة إثر تدخلها العسكري المباشر في الأزمة السورية في عام
2015، كما ازداد دورها في ظلّ قدرتها على التنسيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل،
وتقدّمت العلاقات الروسية- الإسرائيلية إلى درجة أصبح فيها العامل الإسرائيلي أساسيًّا
في السياسة الروسية العسكرية والأمنية في سوريا والمنطقة. وفي المقابل لم تقم روسيا
بدور فاعل في الضغط السياسي على إسرائيل والولايات المتحدة فيما يخص القضية
الفلسطينية، وإن كان سلوكها التصويتي في الأمم المتحدة يحافظ تقريبًا على دعم حلّ
القضية وفق الشرعية الدولية. كما تنامى الدور الروسي في المنطقة في ضوء احتوائها لمصالح
وسياسات كلٍّ من إيران وتركيا من جهة أخرى، وشكّلت نجاحات السياسة الروسية في
تغيير مسرح العمليات والمسار السياسي في سوريا من خلال دعم قوّة النظام السوريّ، واستعادة
السيطرة في مقابل انحسار قوى المعارضة المسلحة. أمّا سياسات كلّ من الاتحاد
الأوروبي والصين فما زال تحديها محدودًا في المنطقة.
وقد أدّى التحوّل في السياسات
الدولية إلى انعكاسات سياسية وأمنية ذات أثر كبير على المنطقة العربية. ومن أبرز
التداعيات السياسية: استلاب القرار العربي بسبب التدخلات الدولية في أكثر من دولة
عربية. وتنامي دور الدول غير العربية في الإقليم على حساب الدول العربية، ويشار
هنا إلى كلّ من إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا. إضافةً إلى تحميل الدول العربية
الغنية مسؤولية إعادة إعمار سوريا وتوطين اللاجئين وإعادة إعمار اليمن، إضافةً إلى
تمويل حملات مكافحة الإرهاب. أمّا في سياق التداعيات الأمنية فقد أصبح ملف الإرهاب
الملف الرئيسي في المنطقة إلى درجة أنه أصبح الزاوية التي ينظر منها المجتمع
الدولي إلى أزمات المنطقة.
ومع ذلك، فلا تزال هناك فرصة أمام
العالم العربي تقوم على ثلاثة محاور لاستعادة جزء من زمام المبادرة في إدارة الشان
العربي وتحقيق مصالحه العليا والمحافظة على أمنه القومي، أولها: التصالح الشامل
بين الدول العربية ووقف الصراعات البينية والسياسات المتباينة إزاء مختلف الأزمات؛
وثانيها القيام بالمصالحات الداخلية على قاعدة الشراكة الشعبية وبناء الجماعة
الوطنية والشراكة السياسية في إدارة البلاد، والتحوّل إلى مسارات ديمقراطية متنوعة
تناسب كلّ قطر وثقافته وتاريخه وطبيعة نظام حكمه؛ وثالثها استعادة الموقف العربي
تجاه القضية الفلسطينية بوصفها القضية الكبرى والمركزية للأمة، ووقف أشكال التطبيع
مع الاحتلال الإسرائيلي، واستجماع القوة لمواجهة السياسات الأمريكية في تصفية
القضية.