تشهد تركيا تطوراً ملحوظاً في إعادة ترتيب أولويات السياستين الداخلية والخارجية للعقد المقبل. وتعد الفترة المحصورة في تسع سنوات فقط (2014-2023) حاسمة وحرجة؛ إذ يتعين على حزب العدالة والتنمية الحاكم أن ينجز الأهداف الاستراتيجية التي وعد الأتراك بتحقيقها وفاز على أساسها بتسع انتخابات متتالية، مثل: الجمهورية الجديدة، وتحقيق المرتبة الاقتصادية العاشرة عالمياً، ومحاربة الدولة الموازية، والمواطنة المتساوية بما يشمل حل قضية الأكراد نهائياً، وعضوية الاتحاد الأوروبي. إنّ هذه الأهداف، ذات الطبيعة الداخلية بالدرجة الأولى، تفرض إعادة ترتيب أولويات البلاد، ربما على حساب الدور الإقليمي النشط.
لكنّ الأولويات الداخلية لا تبدو العامل الوحيد المؤثر في السياسة الخارجية القادمة؛ إذ تواجه تركيا منذ اندلاع ثورات "الربيع العربي" ظروفاً إقليمية معقّدة، وعلاقات "عدائية" مع بعض الدول "الصديقة" سابقاً، وبخاصة من قبل سوريا ومصر وأطراف في العراق ولبنان وقبلهم إسرائيل، فضلاً عن التهديدات القادمة عبر الحدود. وقد تدفعها الاهتمامات الداخلية الملحّة والظروف الإقليمية المتوترة والمعقدة إلى التخلي مؤقتاً عن تأكيد "الدور الإقليمي المركزي" والسياسات المرتبطة به، وتحوّل السياسة الخارجية باتجاه دبلوماسية جديدة ذات مسؤوليات محدودة وتكاليف منخفضة، مع الإبقاء على حضورها في المنطقة دون تدخلٍ نشطٍ إلا في سياق متطلبات تحالفاتها الدولية أو وجود تهديدات وشيكة لأمنها القومي. وفي هذا الإطار، ركز الخطاب السياسي التركي مؤخراً على "البعد الإنساني" عند الحديث عن الاهتمامات الخارجية، كما بدأ يتبلور منهج للسياسة الخارجية يرتكز على "الدبلوماسية الإنسانية والوقائية". ومع ذلك، فالأغلب أن يكون هذا الانكفاء الخارجي مؤقتاً وليس دائماً لأنّ الرؤية السياسية لحزب العدالة والتنمية والأفكار السائدة لدى قادته والمرتكزة على استعادة المكانة الإقليمية والدولية لتركيا اعتماداً على عمقها الجغرافي وإرثها التاريخي، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات، تتعارض مع الاقتصار على سياسةٍ خارجية "إنسانية ووقائية" فحسب.
وتتضمن الدراسة ثلاثة أقسام، يتناول الأول المؤشرات المستقبلية لنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويشرح الثاني طبيعة القضايا الداخلية ويفسِّر التركيز التركي عليها بعد تلك الانتخابات، ويبين الثالث تشكُّل منهج جديد للسياسة الخارجية التركية ويحلل عوامل انكفاء دورها الإقليمي النشط، وتوضح الخاتمة السبب في احتمال اقتصار هذا الانكفاء على الفترة المقبلة المرتبطة بأهداف ورمزية عام 2023.